تعد حرب “داحس والغبراء”، بمثابة أهم الحروب المروعة المؤلمة فى تاريخ العرب فى الجاهلية، والتى اندلعت بسبب سباق
الخيول، حيث احتدمت نارها لقرابة الأربعين عاماً بين قبيلتى عبس وذبيان بنى بغيض بن ريث بن غطفان.
اشعلت الشرارة الأولى تلك الحرب الضروس، بسبب السباق الذى أقيم بين الفرسين داحس وكان فحلاً لقيس بن زهير
العبسى، والغبراء وكانت حجراً “أنثى” لحمل بن بدر الذبيانى، ومن خلال اتفاق بين الطرفين تم الرهان بنحو مائة بعير، حيث أقرا
أن منتهى الغابة “مسافة السابق” مائة غلوة ومدة للإضمار “أربعون يوماً”.
وعند انتهاء مدة الإضمار “تدريب الخيل للسباق“، وحلول موعد السباق قيد الفرسان إلى موضع الانطلاق وكان حمل بن بدر
صاحب الغبراء قد أعد كميناً من بعض فتيان قبيلته وراء بعض التلال على مسالك طريق السباق وأمرهم بالوثوب بوجه
الفرس داحس إن جاء سابقاً فيجفل وينحرف عن الطريق المعين ويؤمن فوز الغبراء.
وبدأ السباق وكانت الغبراء فى الطليعة فى بادئ الأمر ولكن سرعان ما انتزع داحس القيادة منها بدون جهد “وهذا ما كان
يخشاه حمل بن بدر” ومضى الفرسان فى السباق وكان تفوق داحس واضحاً لا شك فيه إلا أنه ما كاد يصل إلى موقع الكمين
حتى خرج فجأة الفتيان من المخبأ ووثبوا بوجهه فجفل ووقع وأوقع فارسه، وبهذا فسح المجال للغبراء للفوز.
ثم نهض فارس داحس وامتطى صهوة جواده ثانية بعد أن تأكد من عدم إصابته بعطب أو أى أذى وانطلق داحس بفارسه
كالصاعقة إثر الغبراء وكاد أن يظفر بها لولا قصر المسافة المتبقية لخط النهاية الذى أنقذ الغبراء وحرم داحساً من نصر
محقق رغم المؤامرة التى دبرت له أثناء السباق.
فازت الغبراء وطالب صاحبها بدر بالرهان وكاد أن يحصل عليه لولا أن المؤامرة انكشفت وبان زيف السباق بعد أن ندم فتيان
الكمين على فعلتهم الشنعاء واعترفوا بإيعاز حمل بن بدر إليهم فى تنفيذ المؤامرة، وقد حكم المحكمون بالفوز لداحس
وطالبوا حمل بن بدر وأخاه حذيفة بن بدر بإعطاء الرهان إلى قيس بن زهير العبسى فرضخا للأمر وسلما الرهان وفى ذلك قال
قيس: “وما لاقيت من حمل بن بدر واخوته على ذات الأصاد.. وهم فخروا على بغير فخر وردوا دون غايتهم جوادى”.
ومع نهاية السباق المغشوش بدأت نذر الشؤم تحوم حول القبيلتين وغيوم الحرب تتلبد فى سماء عبس وذبيان تنذرهم بشر
مستطير وحرب طاحنة لا تبقى ولا تذر، انتهى الأمر بسلام وكادت نار الفتنة أن تخمد وتهمد لولا أن أثارها جماعة السوء من
قوم حذيفة بن بدر بتحريض شقيق حذيفة وذلك بأن لاموا حذيفة على تسليمه بالأمر الواقع وإعطائه الرهان إلى قيس، وقرعوه على ضعفه تجاهه وأوغروا صدره.
وبدأت خيوط المأساة تحاك من جديد فقد أرسل حذيفة إلى قيس يطالبه بإرجاع الرهان ولم يكن من المنتظر أن ينال هذا
الطلب غير الرفض، وقد طال الجدل بينهما بدون جدوى، وتطور النقاش إلى تراشق بالكلمات وكان بن حذيفة قد تمادى فى
التطاول على قيس بالشتائم فما كان من قيس إلا أن طعنه برمح بالقرب منه وأرداه قتيلاً.
ليطل إله الحرب بوجهه البشع مرة ثانية، ولكن العقلاء ورسل الخير من الطرفين قد تدخلوا وأنهوا النزاع بفرض دية المقتول
على قيس الذى وافق على تقديمها دفعاً للشر وتجنباً لوقوع مالا تحمد عقباه بين العشيرتين الشقيقتين.
و كان المفروض أن تتوقف أعمال العدوان بعد أن سوى النزاع وارتضاه الطرفان إلا أن روح الشر الكامنة بحذيفة بن بدر وأخيه
حمل أبت ألا تخلق ما من شأنه أن يفسد الجو بين أولاد العم، فبعد بضعة أيام من مقتل ابن حذيفة حرض حذيفة بعض رجال
قبيلته على اغتيال مالك بن زهير شقيق قيس وهو ما تم تنفيذه.
وبعدها جرت محاولات لإصلاح ذات البين، وقد امتنع رؤساء عشائر عن المصالحة إلا أن قيس بن زهير كان أكثر تسامحاً من زملائه رؤساء العشائر وقبل الدية عن مقتل أخيه مالك ووافق رؤساء العشائر على مضض، إلا ن حذيف رفض إعطاء الدية رغم تسامح قيس الذى كان يروم إرجاع المياه إلى مجاريها بين أولاد العم، فحلت الكارثة وقامت الحرب لمدة أربعبين عاما فقال عنترة العبسى فى مقتل مالك: “فلله عيناً من رأى مثل مالك عقيرة قوم إن جرى فرسان.. فليتهما لم يجريا قيد غلوة وليتهما لم يرسلا لرهان”.
خاص موقع الخيل