كتب هامونت عن اختيار برنامج التكاثر أنه شخصيًّا كان يختار لكل فرس الفحل الذى يعتقد أنه الأنسب فيما يتعلق بالشكل والنسب، وكان يتم وضع رقم على حافر كل حصان، وكان هذا الرقم مسجلاً أيضًا فى سجل أوروبى يقوم بتسجيل جميع الخيل، مع وجود نسخة من السجل فى متناول اليد، وإن كانت النتيجة لا ترقى إلى مستوى توقعاتى أقوم بتعديل وتغيير التزاوج.
ونتيجة لبرنامج التغذية المحصن وظروف أفضل بشكل عام، ففى العام الأول تمت ولادة 90 من المهرات تتمتع بصحة جيدة، ويشير هامونت إلى أن هذا العدد كان جيدًا جدًّا.
ويرى هامونت أنه على الرغم من التحسن الكبير فى إسطبل شبرا والنجاح الكبير الذى تَحقَّقَ فيه، إلا أنه لا تزال هناك مشاكل مع المسؤولين غير الأكفاء ومسئولى صرف الحبوب واللوازم الخاصة بالخيول، فقد شعر بالذعر عندما لم يجد فى المخازن فى شهر إبريل حبة واحدة من الشعير ولا ساقًا من القش فى المخازن، ولا يوجد أى علف، والمتاح فقط البرسيم الحجازي.
لقد تولى الطبيب الفرنسى نيكولا هامونت (وهناك من ينطق اسمه “هومونت”) إسطبلات محمد على باشا لمدة 14 عامًا من 1828 حتى عام 1843، فمن يتحدث عن أن هامونت وجَّهَ معارضة لتحديث نظام الإسطبلات فهذا غير صحيح؛ لأنه استمر 14 عامًا، وإذا كان كلامه صحيحًا، فلماذا لم يرحل؟
الليدي آن بلانت: هامونت دائم التشكيك.. ولا أحد يصدقه
نقلت الليدي نتورث في كتابها “تاريخ الحصان العربي” عن الليدي آن بلانت قولها إن “هامونت” كان دائم التشكيك في الخيول العربية التي أرسلها محمد علي باشا إلى ملك فرنسا، ويصفها بـ”المزعومة”، ويدَّعي أنها لم تكن خيولاً عربية أصيلة، وإنما خيول من نوع “كديش”، أي هَجِينة. مؤكدة أن أحدًا لم يصدقه في مزاعمه.
ولم يقتصر الأمر على هذا، بل إنه ادَّعى أيضًا أن الأتراك كانت لديهم قناعة بأن الأوروبيين لا يعرفون شيئًا عن الخيول؛ لذا كانت هداياهم من الخيول لهم تعتمد على فكرة وصفها بالـ “هازِئة”، وهي أنهم يمكنهم خداع الأوروبيين بأي شيء يقنعونهم بأنه جيد، خاصة أن الأوروبيين كان ينخدعون نتيجة إعجابهم بالنوع الأدنى الذي يُسمَّى “العربي”، على حد وصفه، ويؤمنون بكل ما يقال لهم عن أنسابه، ويبالغون في مدحه والثناء عليه.
ويتمادى “هامونت” بقوله إن “نائب الملك كان يضحك مُخفيًا ضحكته، ويُضحِك شعبه معه، مدركين أن قيمة هذا الحصان الذي نال الكثير من الثناء لا تتخطى الـ 20 جنيهًا إسترلينيًّا على الأكثر”.
حتى إنه صرح بقوله “أعلن بِشَكْل مُؤَكَّد للغاية أن نائب الملك لا يعطي أبدًا تحت أي ظرف من الظروف حصانًا أصيلًا، سواء للقناصل أو الجنرالات أو الرَّحَّالة أو المسؤولين أو لأي دولة أوروبية، بينما كان نهجه الخيول العادية مُتَدَنِّية التربية”، مضيفًا “وهذه هي الخيول المخصصة للأوروبيين. محمد يعرف ذلك تمامًا”.
هامونت يناقض نفسه في أكاذيبه عن خيل محمد علي
ظل هامونت يبثُّ مزاعم وافتراءات عن إسطبلات شبرا التي أسسها محمد علي باشا، لدرجة أنه من شدة مبالغته ناقض نفسه، حيث كتب أنه “ذات يوم في عام 1837، صدَّق محمد علي باشا على قرار مفاجئ اتخذه البلاط الملكي بالتخلي عن مهر من مربط شبرا، وأنا أضمن حقيقة القصة”.
وأضاف “زار الأمير “بوكلر موسكاو”، وهو عاشق للخيول، البلاط الملكي، وأبدَى اهتمامًا ملحوظًا بالمربط. وفي أحد الأيام سألني هذا المسافر الشهير إذا كان من الممكن الحصول من محمد علي باشا على أحد أفضل الفحول، وطلب مني التوسط له”.
وتابع هامونت “أخبرني “أرتين بك” بعد أيام قليلة أن محمد علي قرر تقديم مهر إلى الأمير بالنظر إلى حقيقة أنه من المحتمل أن يكتب في أوروبا أمورًا مهمة عن مصر، فذهبنا إلى القصر، وأَوْعَزَ محمد علي إليَّ بما يلي: “ستختار وتُمَيِّز أجمل المهرات التي تمت تربيتها في مربطي، وستشكل ثلاث مجموعات منها، وبعد ذلك ستختار من بين ما تَبقَّى مهرًا لإرساله إلى الأمير باكلر موسكاو”.
وتمادى في اختلاق الافتراءات بقوله “نفَّذْتُ هذا الأمر بإخلاص، على الرغم من أن الهدية كانت بالكاد ملكية! وعند رؤية المهر يقوده جندي تركي على طريقة المنتصرين؛ مما جعل الأمير يطلب من خَدَمِه عدم السماح لدخول المهر الإسطبل”.
وفي هذه الفقرة يتقمص هامونت دور البطولة، فيقول “وصلْتُ في الوقت المحدد لسماع أكثر عبارات الاشمئزاز بلاغةً، وطَلَب منِّي أن أستعيده (المهر). ومع ذلك عاندْتُ. لكن عند عودتي إلى شبرا، انتظرَني مشهد حامِي الوَطِيس، إذ تم استدعائي أمام محمد علي، الذي وجدتُه يتحرك جِيْئَةً وذَهَابًا في غضب ميلودرامي، ويداه خلف ظهره عَبوسًا متوعدًا”.
وعقَّبَ بقوله “لقد هاجمني لأنني تخلَّيْتُ عن أحد أفضل مهوره في مخالفة لأوامره! مهر قيمته عشرة آلاف فرنك. ونجوتُ بصعوبة من فضيحة وطردٍ علنيٍّ”.
ثم علَّق “كان كل هذا بمثابة مسرحية معتادة مُثِّلَتْ من أجل الأمير، الذي سيتم إبلاغه بأنه حصل على كنز لا يُقدَّر بثمن”.
وهكذا يؤدي الإمعان في الافتراء إلى كشف الزيف، حيث إن خيالات هامونت تجاوزت المنطق، فأي عقل يمكن أن يصدِّق أن محمد علي العظيم بعقليته وشخصيته يفعل مثل هذه التفاهات التي لا يؤلفها إلا عقل ساذج، أو نَفْسية حاقدة؛ لذا كان كلام هامونت هباءً منثورًا في مَهَبِّ الريح.
هامونت يتقمص دور جحا ويصدق نفسه
بلغت ادعاءات هامونت إلى درجة أنه تقمص دور جحا، وظل يكذب، ويبالغ، ويتمادى في الكذب، حتى صدَّق نفسه، وهو ما ظهر في ترديد مؤلفاته المُختلَقة، حيث يحكي عن الخيول التي أرسلها محمد علي باشا إلى ملك فرنسا، بقوله:
“كانت الخيول السبعة التي تم إرسالها مؤخرًا إلى فرنسا سلالة هجينة. ثلاثة أتوا من إبراهيم باشا والآخرون تربية ريفية، لكنهم جميعًا هجين. خمسة بقيمة ستمائة أو سبعمائة فرنك، والاثنان الآخران فقط بحوالي أربعمائة أو خمسمائة فرنك (من 16 إلى 20 جنيهًا إسترلينيًّا).
“هذه الدُّفْعة الأخيرة، مثل تلك التي تم إرسالها سابقًا، كانت موضع سخرية الأتراك، وستكون لديهم فكرة سيئة عن معرفتنا بالخيول عندما يقرأ لهم مترجمهم المديح الطَّنّان المنشور في الصحافة الفرنسية! وقبل أن أراهم، زارني أحد سائسي أو مروّضي الخيول المحليين التابعين لي.
والحق أن ما كتبه هامونت إن دل فإنما يدل على شيء واحد، وهو أنه كان ساذجًا في افتراءاته، فلو أنه كلف نفسه بالقراءة عن الحصان العربي، لأدركَ أن له مميزاته الخاصة، فهو حصان موزون يتمتع بالكارزما والشخصية، وقوام الحصان العربي أهم ما يبحث عنه الأوروبيون، وهم ليسوا بسذاجة هامونت؛ لتنطلي عليهم “مسرحية” محمد علي باشا، خاصة أنهم يدققون في مواصفات الخيل العربي، وهي:
- الآذان: يجب أن تكون صغيرة دقيقة الأطراف ومتقاربة.
- العيون: واسعة براقة تنمُّ عن ذكاء وانتباه ولطف.
- الجبهة: عريضة.
- المنخران: واسعان رقيقٌ ما حولهما من الجلد.
- الذيل: عالٍ.
- الرقبة: مقوسة.
هامونت يعترف بوجود أجود الخيول بشبرا
نواصل مع هامونت ادعاءاته؛ من باب التعرف على طبيعة شخص يسعى بشتى الطرق لتشويه التاريخ والتراث على حساب الحقيقة الراسخة، والتي أتت هذه المرة على عكس ما كان يروِّج له، حيث إنه يعترف بوجود أجود الخيول بإسطبلات شبرا، إذ يقول: “كيف لمحمد علي، ملك مصر، إذا كان معجبًا جدًّا بملكنا، ألَّا يعطيه إحدى الخيول الجميلة، “بيشان”، أو “حسين علي”، أو”لو كحيل”، أو “الجافوي”، أو “النجدي”، أو “الجديد”، إلخ، أو الفرس الجميلة “فريحة” التي توافد الأوروبيون لمشاهدتها في شبرا؟ ذلك لأنه “يكرم” أميرًا مسيحيًّا بتقديم ما لا يقبله أحد من أبناء وطنه”.
وهنا نجد اعترافًا واضحًا من هامونت بوجود أجود الخيول لدى محمد علي باشا، ويتضح لنا أن هامونت كان يتدخل فيما لا يعنيه، ويسمع ما لا يرضيه، ولا يؤخَذ بقراره، وظهر ذلك من خلال التناقض الذي كتب به مذكراته.
سافر هامونت إلى فرنسا عام 1942، ثم عاد مرة أخرى بعد 4 سنوات، والحقيقة أن هناك خلافًا حدث بين عباس باشا الأول مؤسس مملكة الخيل المصرية وهامونت، حيث إن عباس باشا كان غير مقتنع بفكر وطريقة إدارة هامونت للإسطبلات، كما أنه لا يحب الفرنسيين.
وكان الفنانون الأوروبيون يذهبون إلى شبرا؛ لمشاهدة الخيول ويرسمونها على القماش.