يدرك الباحثون والعلماء والمهتمون بمجال تربية الخيل العربية الأصيلة ورعايتها أن عباس باشا الأول يحتل مكانة فريدة فى هذا الميدان؛ لما قدمه من جهود كبيرة غير مسبوقة فى تأسيسِ “مملكة الخيل المصرية”.
وُلِدَ عباس باشا الأول فى مدينة “جدة” إحدى محافظات منطقة مكة المكرمة بالمملكة العربية السعودية، وذلك عام 1228 هـجرية، الموافق 1813 ميلادية.
أبوه أحمد طوسون باشا، ابن محمد على باشا، وأمُّه “بَامْبا قادين”، ويعنى اسمُها “الوردى”.
تولى عباس باشا مجموعة من المناصب المهمة فى مصر والسودان قبل أن يصبح الحاكم الثالث لمصر. اهتم بإنشاء مدينة جديدة فى صحراء الريدانية أطلق عليها العباسية، يسكنها الكبراء والأثرياء، وأنشأ بها القصور السبعة، وألحق بكل قصر إسطبلاً للخيول، وعُرِفَتْ فيما بعد بالسرايا السبعة.
وشيد قصرًا ضخمًا بلغ عدد نوافذه 2000 نافذة طبقًا لرواية “فرديناند ديليسبس” الذى ذكر أنه شاهد هذا القصر عام 1855م.
الحصان المصرى
لا يجافى أحد حقيقة أن عباس باشا الأول بحق مؤسس مملكة الحصان المصرى. ويتحدث الأمير محمد على توفيق عن تلك الفترة المهمة فى حياة جده عباس باشا قائلاً: “أحببتُ الخيل منذ حداثتى، وابتدأتُ أمتطى جيادى منذ كانت سنى ستَّ سنوات، وكان معلمى هو الباشا الجركسى الذى أرسله جدى المغفور له عباس باشا الأول أكثر من عشرين مرة لشراء أصل الخيولِ العربية، وجلبها إلى مصِر، حتى يقال إن مجموعة الخيول التى كانت لعباس باشا الأول لم يحرز مثلها إلا الملك سليمان.
ويمضى توفيق فى حديثه عن جده عباس باشا الأول وعلاقته بالخيل قائلاً: ارتبط عباس باشا بعلاقة قوية بشيوخ القبائل العربية، وكانت له علاقات متميزة مع كثيرين بالجزيرة العربية وبادية الشام، وقد سعى عباس باشا فى حل كثير من الصراعات الدائرة فى شبه الجزيرة العربية، وكانت له كلمة مسموعة لدى الجميع.
لماذا كان الأوربيون يفاخرون بخيل عباس باشا؟
بلغت جودة خيول عباس باشا الأول أن يفاخر بها الأوروبيون، حيث كان شغف عباس باشا الأول كبيرًا بجمع الخيول العربية الأصيلة، وهذه الهواية جعلت أصدقاءه يَسعَوْنَ بكل جهد للحصول على كرائم الخيل التى لا تباع ولا تشترى لتقديمها له.
وكان الجميع يَسعَوْنَ لبناء علاقات مودة وصفاء معه، وهذا ما جعله يهتم بتهدئة الأحوال فى جزيرة العرب، والتدخل المباشر لحل بعض المشكلات بين زعمائها، وهذا ما جعل الجميع يسعى لأن تكون فى إسطبلات عباس باشا أجود الخيول.
خصص عباس باشا عددًا من الإبل؛ لتروى الأفلاء “أبناء الخيل” والمهار بلبنها، وأهم مزايا لبن الإبل، أنه يحتوى دون غيره من ألبان الحيوانات الأخرى على مركبات ذات طبيعة بروتينية كالليزوزيم، ومضادات التخثر، ومضادات التسمم، ومضادات الجراثيم، كما يمتاز لبن النوق باحتوائه على فيتامين “ج”، وهو عنصر بالغ الأهمية فى المناطق التى لا تتوافر فيها الفواكه والخضراوات الطازجة، وهذا ما ينطبق على الصحراء.
ومن المشهور عن عباس باشا أنه كان لا يسمعُ بفرس أو حصان أصيل إلا أرسل إلى مالكه طلبًا فى شرائه، ويُرغِّبه بالأموال، ويضاعف له. كما كان يفاخرُ بخيله الأوروبيون، حتى إن البارون الألمانى “جوليوس فون هيغل” رئيس مزرعة “فيورتمبيرغ”، الذى جاء إلى القاهرة لشراء الخيول العربية من عباس باشا لصالح الملك “فيورتمبيرغ”، والذى أسس مربطًا للخيول العربية عام 1817، يقول فى مذكراته عن مقابلته عباس باشا: “كان لا يُكثِر من الحديث عن الخيول أمام أحد من الغرباء؛ خشية أن يطلبوها منه. وعندما التقيت به صدفة مع حشد من ندمائه، استدرجْتُه للحديث عن الخيل بشكل عام، فبدأ يسأل عن استيراد الأوروبيين للخيول، ثم تَطرَّقَ إلى مواصفات الخيول العربية وأهميتها. وبعد أن أجبتُ عن تساؤلاته، قال: رغم أننى واثق من أنكم نجحتم فى تربية خيول عربية أصيلة فى أوروبا، إلا أنه يجب ألا تتخيلوا أن ما وُلِدَت عندكم هى جياد عربية أصيلة؛ لأن هناك صفاتٍ لا تولد فى الحصان العربي، ولكنه يكتسبها فقط ما دام يتنفس هواء الصحراء”.
عباس باشا وسياسة اقتناء الخيول بالشراكة
حرص عباس باشا على اقتناء الخيول من مرابطها عن طريقِ الشراكة، إذ كان البدو يقدمون له أفضل ما عندهم من خيول، بشرط أن ينالوا مهرًا أو مهرين مولودين منها. ولولا هذا الشرط لما رضى البدو بمفارقة خيولهم التى كانوا يقدمونها له بأى شكل، وفى مثل هذه الأوقات كان عباس باشا يستضيف البدو، ويقدم لهم هدايا؛ لذلك قوى نفوذه على القبائل كثيرًا.
ولم تمنع صداقة عباس باشا للأمير فيصل من أن يشترى منه فرسين ثمينتين بمبالغ خيالية، هما: “وزيرة” تُدعَى “جلابية فيصل”، أصلها من خيول البحرين، أعطِيَتْ لفيصل بن تركي، وأرسِلَتْ من قِبَلِه إلى عباس باشا، ودفعَ فيها أربعة آلاف جنيه، والثانية “جازية” صقلاوية من خيول الرولة.
كان للحصان نصيبُ الأسد من اهتمامات عباس باشا الأول، حيث تَعامَلَ مع الخيول القادمة من الجزيرة العربية باهتمامٍ وتفاعلٍ بالغين، واقتنى أفضل السلالات، ليس على مستوى الجزيرة العربية فقط، بل على مستوى العالم أجمع، وأوصى وزراءه بالسكن فى بيوت مجاورة لمنطقة عُرِفَت فيما بعد بالعباسية؛ نسبة إليه.
كما أنهُ ذلَّلَ جميع الصعاب التى واجهته فى إعادة إعمار مرابط الخيل العربية الأصيلة العائدة لجده محمد على، حيث صرف مليون جنيه فى بناء إسطبلات الدار البيضاء، التى تقع على بعد اثنى عشر ميلاً من القاهرة على طريق السويس الصحراوى، والتى لا تزال آثارها باقية حتى الآن، فتم بناؤها بين عامى 1850 – 1851 م، وزُوِّدت بخزان ماء كان يُمْلَأ بالماء المجلوب على ظهور الإبل من النيل مباشرة.
كان المكان منقطعًا عن الناس، ويزوره عباس باشا بين فترة وأخرى، ولم يكن أحد يعرف ماذا يجرى فى هذا المكان بالضبط؛ لأن المنطقة محاطة بحراسة مشددة تتلقَّى أوامرها من عباس باشا نفسه.
وحرَص عباس باشا على تطبيق نظام البدو فى تربية الخيل؛ لذا كانت خيوله تُدرَّب قرب هليوبوليس القاهرة تحت قيادة خبراء البدو من قبائل معروفة بعنايتها بالخيل، مثل: عتيبة، ومطير، وعنزة، وشمر، والهنادي، فعهد إليهم بإدارة بيت الخيول الذى بنى فيه قصره، فجعل شرفاته تطل على مربط الخيول؛ حتى لا تغيب عن نظره.