اقتنى عباس حلمى باشا، أفضل سلالات الخيول بالجزيرة العربية والعالم، وكان دائم التردد على بوادي العرب، وعاش فى أحد قبائلها وهى قبيلة “الرولة العنزية”، لقرابة العام، حيث تنقل بين قبائل شمال الجزيرة، وأحب حياة البدو، حيث عرف شيوخهم ورجالهم وفرسانهم، فأحبوه وأحبهم وأصبح واحدًا منهم في عادته وأخلاقه.
ولد عباس حلمى باشا فى مدينة جدة بالحجاز، ونشأ فيها، وتعامل مع الخيول القادمة من الجزيرة العربية باهتمام وتفاعل بالغين، واقتنى أفضل السلالات منها، ونشأت علاقة صداقة وطيدة بينه وبين الأمير فيصل بن تركي آل سعود “مؤسس الدولة السعودية الثانية”.
وبتولى عباس باشا حكم مصر بعد وفاة عمه إبراهيم باشا فى العام 1848، أرسل الأمير فيصل له عددًا من كرائم خيول جزيرة العرب، التى تعد من أثمن الهدايا على قلبه الشغوف بحب خيول العرب الأصيلة، وعقب وصول “الهدية” إلى مربط خيل الخديوي عباس باشا بالقاهرة، انتابته حالة من السعادة، ليرسل إلى حاكم نجد الإمام فيصل بن تركي آل سعود، رسالة حول أصول هذه الخيول، ليرد عليه الإمام أنها قادمة من أحد مرابط خيله من قبائل جزيرة العرب.
ونالت نصيحة الإمام فيصل اهتمام الخديوى عباس، وعلى الفور أرسل عددًا من الكتبة الإختصاصيين الممتازين الأمناء في نقل المعلومات، حيث أوضحت كتاباتهم أنهم على علم بأصول الخيل ومن المخالطين لقبائل العربان، حيث كان على رأسهم مملوك الخديوي عباس علي بك الجماشرجي المشهور باللالا، والذي ظل يجوب شبه الجزيرة العربية من أقصاها،إلى أدناها ليستحضر له أفراسًا من أعز مرابط خيل العرب الأصيلة متتبعًا خطواتها رغم بعد المسافة وصعوبة التنقل.
ويذكر المؤرخين، أن رجال عباس باشا تنقلوا بين قبائل نجد، وقابلوا شيوخها وأصحاب مرابط الخيل بها، بالإضافة إلى كل من له معرفة بأصول الخيل ومواصفاتها، حتى حصلوا على المعلومات التي جمعوها من أفواه الرواة ورتبوها ترتيبًا محكمًا راقيًا يثير الانتباه ويجلب الإعجاب والتقدير، وفور عودتهم إلى مصر، رتبوا كتبهم ونظموها وقدموها إلى الخديوى عباس باشا في العام 1852 تحت مسمى “أصول الخيل” والتى سماها بعضهم فيما بعد بـ”مخطوطة عباس باشا عن الخيل”.
ولم تمنع صداقة عباس باشا للأمير فيصل من أن يشتري منه فرسين ثمينتين بمبالغ خيالية وهما: “وزيرة” جلابية تدعى جلابية فيصل، أصلها من خيول البحرين، أعطيت لفيصل بن تركي، وأرسلت من قبله إلى عباس باشا، ودفع فيها أربعة آلاف جنيه، والثانية “جازية” صقلاوية من خيول الرولة، كانت ضعيفة لا تقوى على السفر الطويل؛ فنقلت من ديار الرولة في سوريا على عربة حتى وصلت القاهرة، ودفع فيها ألف جنيه.
إلى ذلك، أشارت الليدي آن بلنت في كتابها “الحج إلى نجد”، أحداث رحلتها برفقة زوجها إلى شمال نجد وشبه الجزيرة العربية في عام 1297هجرية، وأن “الصقلاوية العجوز”، التي اشتراها عباس باشا كانت من خيل الإمام فيصل بن تركي، مضيفة “أنها أنجبت مهرين في مصر، مات أحدهما والآخر أهدي إلى ملك إيطاليا.
بينما يقول صاحب كتاب “الجواد العربي”: إن هذه الصقلاوية الأصيلة التي أحضرها عباس باشا على عجلة ثيران هي الأم العليا للأصل الصقلاوي بمصر، ومن ابنتها وأحفادها وحفيداتها ولدت الأفراس الصقلاوية التي صارت مفخرة مرابط أمراء الأسرة الخديوية.
وأراد عباس باشا تطبيق نظام البدو فى تربية الخيل، حيث كانت خيوله تدرب قرب منطقة هليوبوليس بالقاهرة تحت قيادة خبراء البدو من قبائل معروفة بعنايتها للخيل مثل: “عتيبة، ومطير، وعنــزة، وشمر، والهنادي”، فعهد إليهم بإدارة بيت الخيول الذي بني فيه قصره، وجعل شرفاته تطل على مربط الخيول حتى لا تغيب عن نظره.
وأوصى الخديوى وزراءه بالسكن في بيوت مجاورة للمنطقة التى عرفت فيما بعد بالعباسية نسبه إليه، كما أنه ذلل جميع الصعاب التي واجهته في إعادة أعمار مرابط الخيل العربية الأصيلة العائدة لجده “محمد علي”، وصرف قرابة المليون جنيه في بناء إسطبلات الدار البيضاء التي تقع على بعد اثني عشر ميلاً من القاهرة على طريق السويس الصحراوي، والتي مازالت آثارها باقية حتى الآن، وذلك ما بين عامي 1850 – 1851.
وتم تزويد المربط بخزان ماء كان يملأ بالماء المجلوب على ظهور الإبل من النيل مباشرة، وكان المكان منقطعا عن الناس ويزوره عباس باشا بين فترة وأخرى، ولم يكن أحد يعرف ماذا يجري في هذا المكان، لأن المنطقة محاطة بحراسة مشددة تتلقى أوامرها من عباس باشا نفسه.
ويشير المؤرخين إلى أن الخديوى عباس خصص عددًا من الإبل، لتروي الإفلاء “أبناء الخيل” والمهار بلبنها، حيث كانت النوق في عهده تُربى وتعلف لأجل الخيل وليس لأجل المزاينات، حيث إن أهم مزايا لبن الإبل، احتواءه دون غيره على مركبات ذات طبيعة بروتينية كالليزوزيم، ومضادات التخثر، ومضادات التسمم، ومضادات الجراثيم، كما يمتاز باحتوائه على فيتامين “ج”، وهو عنصر بالغ الأهمية في المناطق التي لا تتوافر فيها الفواكه والخضروات الطازجة.
ومن القصص الغريبة أيضا بشأن عشق عباس باشا للخيل وغرامه وتقديره للأصايل، أنه أهدى ملكة بريطانيا الحصان الصقلاوي “دربي”، لكن هذه الهدية لم تقدر وبيعت للهند، ويقال أنه فور علمه ببيعها غضب غضبًا شديدًا وأرسل إلى البدو الذين ربّوا الحصان وقال لهم: “هل تميزوا “دربي”؟ فأقسموا بأنهم سوف يميزونه من بين ألف حصان مشابه له، فأرسلهم إلى الهند بصحبة مندوب موثوق، ليعودوا بالفعل ومعهم الحصان، حيث استغرقت رحلة البحث قرابة السنة كما تكلف تلك الفترة نحو 500 جنيه إسترليني.
كان عباس باشا لا يسمع بفرس أو حصان أصيل إلا ويرسل إلى مالكه طلبًا في شرائه، ويرغبه بالأموال ويضاعف له، حيث أن شعر الجزيرة العربية زاخر، بأشعار فرسان الجزيرة ردًّا على عباس باشا في رفض بيع أصايلهم.
وتفاخر عباس باشا بخيله الأوروبيين، حتى أن البارون الألماني جوليوس فون هيغل، رئيس مزرعة “فيورتيمبرغ”، الذي جاء إلى القاهرة لشراء الخيول العربية من عباس باشا لصالح الملك “فورتمبرغ”، الذي أسس مربطًا للخيول العربية عام 1817، يقول في مذكراته عن مقابلته لعباس باشا:
“إنه لا يكثر من الحديث عن الخيول أمام أحد، خشية أن يطلبوها منه، وعندما التقيت به صدفة مع حشد من ندمائه، استدرجته للحديث عن الخيل بشكل عام لعلي استطلع مبادئه عن تربية الخيول، فبدأ يسأل عن استيراد الأوربيين للخيول، ثم تطرق إلى مواصفات الخيول العربية وأهميتها وبعد أن أجبت على تساؤلاته، قال: “رغم أنني واثق من أنكم نجحتم في تربية خيل عربية أصيلة في أوروبا، إلا أنه يجب ألا تتخيلوا أن ما ولد عندكم هي جياد عربية أصيلة؛ لأن هناك صفات لا تولد في الحصان العربي ولكنه يكتسبها فقط مادام يتنفس هواء الصحراء”.
واتبع عباس باشا تجربة اقتناء الخيول من مرابطها عن طريق الشراكة، حيث كان البدو يقدمون له أفضل ما عندهم من خيول بشرط أن ينالوا مهرًا أو مهرين مولودين منها، ولولا هذا الشرط لما رضي البدو على مفارقة خيولهم، التي كان يقدمونها له بأي شكل، وفي مثل هذه الأوقات كان عباس يستضيف البدو ويقدم لهم هدايا، لذلك قوي نفوذه على القبائل كثيرًا.